صحيفة ١٧ يوليو الإخبارية/ كتب : نـاجـي الحارثي
في هذا المنعطف الحاسم من تاريخ اليمن، حيث تتكالب قوى التزييف على طمس الحقيقة واستبدال المواقف بالمصالح، والبطولات بالتقارير المدفوعة، ينهض صوت الضمير ليسجّل، لا مجرد شهادة، بل مرافعة وطنية تعيد تعريف الشجاعة والخيانة، وتضع كل اسم في موضعه، وكل دم في مساره الخالد.
ما ستكشفه الأيام القادمة لن يكون تكرارًا لروايات سابقة، بل كشفًا حيًّا، بالصوت والصورة، بالأسماء والوجوه والوقائع، عن تفاصيل الأيام الستة الأخيرة من حياة الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح، والتي حاول البعض طمسها تحت ركام الزيف، وإخضاعها لمقصّ المصلحة أو فتوى التواطؤ.
ستة أيام ليست مجرد تواريخ في الروزنامة، بل جبهات مفتوحة على كل المعاني، ومراحل متلاحقة من الصمود الأسطوري، والخيانة المفضوحة، والتضحية الفذة، والتاريخ الذي يُكتب بالدم لا بالحبر.
تساوي قرونًا من البطولة، لأنها شهدت اجتماع الموت والحياة على مفترق الثنية، حين قرر الزعيم أن يعيد تشكيل البوصلة اليمنية، ويكسر الوهم الحوثي، ويعيد الاعتبار للدولة والجمهورية والهوية.
منذ اللحظة الأولى، بدأت خيوط المؤامرة تتكشّف، وبدأت بنادق الغدر تُشهر من الداخل، بينما الزعيم ورفاقه، قلة آمنت أن الشهادة في سبيل الوطن أكرم من حياةٍ تُمنح في كنف العبودية.
في "الثنية"، وقف الزعيم رغم الطعنات من خاصرته، من أولئك الذين ظنوا أن تحالف الخيانة سيدوم، وأن صوت البندقية سيُسكت صوت الجمهورية.
لكنه لم يرضَ إلا بالمواجهة، فصمد، وحارب، ورفض أن يُكسر.
ومن أمام بوابة الخروج إلى المجد، ظهر البطل المقاوم أواب الوهبي المرادي، الشاب الجسور الذي تولى مهمة فتح الطريق وتأمين الانسحاب للزعيم ورفاقه، مع كوكبة من أبناء شبوة ومأرب والبيضاء الذين آمنوا أن طريق الشرف لا يُعبد إلا بالدم، فسقط شهيدًا وهو يحرس البوابة، ليصبح أول الشهداء في ملحمة الخلاص الوطني.
في عمق المعركة، تجلت عبقرية القائد الميداني العميد طارق محمد عبدالله صالح، ابن شقيق الزعيم، الذي قاد الرجال وهو يعلم أن النتيجة إما نصر مشرف أو شهادة ترفع الرأس، رتب المواقع، نظم الصفوف، وأمن الثغرات، وزرع الأمل وسط اللهب.
أما العميد محمد محمد عبدالله صالح، فكان يحمل مهمة شبه مستحيلة: اختراق الجبهات الحوثية والوصول إلى منزل الزعيم لإنقاذه. تحرك تحت القصف، وواجه نقاط التفتيش، مصممًا على إنجاح المهمة حتى على حساب حياته.
وصل، قاتل، واستشهد محاولًا إعادة الأمل في اللحظات الأخيرة.
برزت أسماء أخرى نذرت حياتها بصمت وكرامة: العميد حسين الحميدي، الدرع البشري لحماية الزعيم من القناصة، عاطف الضبري وصبري العماد، رجال الاتصالات الذين تحركوا تحت نيران المدافع لتأمين التواصل، ومحمد الهمداني، جار الزعيم الذي رفض المغادرة رغم التهديد، فاستشهد على عتبة الوفاء. ولم تكن أعمدة المجد محصورة بصنعاء، بل امتدت إلى رجال القبائل: الشيخ ناجي جمعان في صنعاء، الشيخ الزرقة في حجة، الشيخ مثنى في ذمار، الذين ثبتوا حين ترنّح الآخرون، ورفضوا بيع الموقف أو ارتداء ثياب الانبطاح.
وما لا يعرفه كثيرون هو قصة ذلك السائق المجهول، المواطن اليمني الحر، الذي اخترق نقاط التفتيش الحوثية، وتجاوز المخاطر من الحي السياسي حتى قرية الجحشي، ليكون حلقة وفاء نادرة، تُكتب بماء الفخر وتُروى للأجيال.
في هذا السياق، جاءت شهادة الأخ العزيز مدين علي عبدالله صالح، نجل الزعيم، في مقابلة بثتها قناة "العربية"، لتكسر جدار الصمت وتُعيد تشكيل الوعي بما جرى فعلاً خلال الأيام الأخيرة قبيل استشهاد الزعيم.
لم تكن شهادته مجرد رواية شخصية أو سرداً عابرًا لوقائع، بل كانت وثيقة وطنية مصحوبة بحرقة القلب وصدق العارف، رسمت ملامح الملحمة من الداخل، حيث امتزجت رائحة البارود بعبق الوفاء، وتلاحمت البطولات مع الخيانات، في تفاصيل تهزّ الوجدان وتوقظ الضمائر.
تحدث مدين بوجهٍ لم تكد تغادره ملامح الحصار والرعب، لكنه رغم ذلك، نطق بشجاعة، واستحضر المشاهد بلغة الشاهد الحي.
كان أحد الذين عاشوا الساعات الأخيرة داخل المنزل المحاصر، ورأى بعينيه التحول المروّع من "تحالف الضرورة" إلى "خيانة العهد"، حين أدار الحوثيون بنادقهم نحو حليف الأمس دون إنذار أو أخلاق.
وكشف أن ما تعرّضوا له لم يكن مجرد مواجهة عسكرية، بل خيانة مدبّرة.
روى مدين كيف تحوّل البيت الجمهوري إلى قلعة صامدة، لا صوت فيها يعلو على هدير البندقية، ولا قرار يُتخذ إلا بعقل القائد وإرادة الموقف. وصف كيف كان الزعيم ثابتًا، رابط الجأش، يوزع كلمات الصمود وكأنها ذخيرة معنوية، يؤكد أن المعركة ليست على شخصه بل على الجمهورية.
فالحصار لم يُرعبه، ولم يتحدث لحظة عن الاستسلام، بل أصر على القتال حتى الرمق الأخير.
كانت الشهادة التي قدّمها مدين كفيلة بتفنيد الروايات المفبركة التي نسجها إعلام جماعة الحوثي، وفضح محاولات تسويق سيناريوهات الاستسلام أو الهروب أو التنسيق.
وأوضح أن ما حدث كان عملية اغتيال ممنهجة استهدفت رأس المشروع الجمهوري.
كما أوضح أن كثيرًا من رفاق الزعيم استشهدوا في مواقع الشرف، ولم يُعتقلوا أو يختفوا كما زعمت حملات التشويش.
المقابلة كانت بمثابة فتح بوابة الذاكرة المغلقة، إذ كشف مدين عن اللحظات التي أعقبت الاستشهاد، وعن ظروف اعتقاله ومرافقيه، ومعاملتهم، وكيف حاول الحوثيون استغلالهم لتشويه الرواية.
وكانت تلك الكلمات كافية لتعيد إلى الأذهان صورة الزعيم لا كقائد سياسي فقط، بل كأبٍ، وإنسان، وشهيد فكرة، وأبناء الفكرة لا يموتون.
وبين كل سطر نطق به مدين، كانت هناك رسالة واضحة: أن ما بُني على الغدر لا يدوم، وأن الزعيم لم يسقط، بل وقف حتى النهاية، وصنع بفدائه قصة لا تنتهي.
وكل من حضر تلك اللحظات بات حاملًا لأمانة وطنية لا تسقط بالتقادم. وما ستكشفه الأيام المقبلة من حقائق وفضائح سيكون تباعًا، وسُتظهر التفاصيل بالصوت والصورة، فكونوا على الموعد... خلكم معنا متابعين.
ولعل ما يضاعف من ألم الخيانة، هو ذلك الصمت المُريب للمجتمع الدولي، والمنظمات التي لطالما تغنت بحقوق الإنسان، لكنها بلعت ألسنتها حين اغتيل رأس الدولة، وتم التمثيل بجسده، وبُثت صور الدم على الشاشات، دون أن يتحرك ضمير أو تُصدر إدانة.
فهل هذا هو الحياد؟ أم أن الحياد في زمن الظلم هو شراكة في الجريمة؟! حين يُذبح القائد، ويُجرّ الوطن من أذنه أمام عدسات المرتزقة، ويُزيف المشهد تحت غطاء الصمت، فإن الحياد يصبح طعنة في خاصرة العدالة.
وفي خضم تلك الأحداث، كانت كل دقيقة تمرّ وكأنها عامٌ كامل من الاختبار الوطني.
كان كل نبض من الزعيم يخطّ سطرًا جديدًا في كتاب الجمهورية.
ومعه، كان طيف الأمل يتنقل بين جدران الحصار، ومن خلف النيران، تشكلت إرادة لن تموت.
واليوم، وبعد مرور كل هذه السنوات، لم ولن تنطفئ ذاكرة اليمنيين.
فدم الزعيم لم يكن قطرة، بل نهرًا يسري في شرايين الوطن.
ومع كل لحظة، تتقدم خُطى الحقيقة نحو الضوء.
فوثائق وشهادات من عاشوا المشهد ما زالت تُجمع وتُنقّح، وسيأتي وقت إعلانها، بالصوت والصورة، بالتوقيتات الدقيقة، لتُفضح الأقنعة، وتُسقط خرافات التزوير الإعلامي.
فالزعيم لم يُغدر به فقط، بل غُدر بالوطن، بالتاريخ، بالأمانة.
لقد قال الزعيم في آخر خطاب له إن الحوثيين لا يؤمنون بشراكة، وأنهم يقتلون رفاقهم.
وبعد 48 ساعة فقط، تحققت كلماته حرفيًا.
أما إعلام الإفك، التابع للإخوان والحوثي، والذي روج لإشاعات قناة "الجزيرة" و"هنا عدن" و"أنيس منصور"، فقد سقط في أول اختبار للضمير.
حاولوا تصوير الزعيم كمتمرد، بينما كان يقاتل من أجل الجمهورية.
وقف وحيدًا، إلا من الوفاء، وتخلى عنه من ظنهم سندًا، بينما ثبت من كان في صفه حتى آخر طلقة.
وإن كان الزعيم قد دفع حياته ثمناً للموقف، فإن أمثال أنيس منصور يدفعون مصداقيتهم ثمناً للعمالة.
لا ثبات في موقف، ولا احترام لعقل، ولا ضمير يردع عن قذف الشرفاء.
ويعلم الجميع اليوم أن من خدم أجندات إسطنبول والدوحة، لن يُنصف وطنًا، ولن يحمي شرفًا.
أما من عاشوا اللحظة، وكانوا هناك، حين كانت البنادق تفصل بين الحقيقة والخيانة، فإنهم حَمَلوا أمانة لا تسقط، وسينطقون بها يومًا، مهما طال الزمن. فلن يبقى إلا الصدق في الموقف، والشرف في النهاية.
وكما قيل: "من يتحدث إليك عن حياته ويشاركك أسراره، فلا تخسره".
وقد فعلها الزعيم، شاركنا الوطن، فهل نخونه؟ أم نكون امتدادًا له؟
الزعيم لم يمت، بل صار فكرة تسري في وجدان اليمنيين، وصار عنوانًا للكرامة، لا تُبددها حملات الشيطنة، ولا تُغيّبها أقلام الحقد.
ومهما حاولوا تشويه صورته، فالبصمة التي تركها محفورة في وجدان الأحرار، لا يمحوها إعلام، ولا يُطفئها تزوير. خلود الرجال لا يُكتب بالحبر، بل يُخطّ في الوجدان.
ومن أحب عقول الرجال، أحب ملامحهم. ومن أحب اليمن، أحب الزعيم.
اعمل الخير بصوت هادئ، وسيعلو صوتك من خلال أعمالك. لا تنظر إلى الخلف، فلن يربح السباق من يلتفت. وإن نسوك وقت الوفرة وتذكروك وقت الحاجة، فلا تحزن، فأنت كالشمعة... ما إن أظلمت حياتهم، أسرعوا إليك. الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت، والوثائق جاهزة، والحقائق ستُقال، مهما علت الأصوات النشاز.
ومن آخر الثنية، حيث سال الدم الزاكي، يلوّح الزعيم من جديد، لا بيده، بل بظله الذي لا يغيب، يمرّ على خوذات المقاتلين، على دفاتر الأطفال، على جباه الأحرار، ليقول: أنا الجمهورية، أنا الوطن، فلا تخذلوني.
والرد سيكون من قلوبٍ لم تنس، ومن جيل لم يولد بعد، سيعرف أن هناك رجلاً، مات واقفًا، ليبقى اليمن واقفًا.
مع خالص التحايا والتقدير
✍️ الكاتب المستقل الوحداوي الجهوري
نـاجـي بـن عـبـدالـلـه مـبـارك مـلـيـوي الـحـارثـي
وادي بلحارث – شبوة عسيلان – الجمهورية اليمنية
📅 الثلاثاء، 29 يوليو 2025م