أراء ومقالات

الثلاثاء - 16 سبتمبر 2025 - الساعة 06:40 م بتوقيت اليمن ،،،

صحيفة 17يوليو/ كتب - عبدالله شروح

والشمس تتحدّر دمعة حمراء في خد السّماء، يضطجع البطل مضرجاً بدمائه جوار المدرّعة التي كانت تقلّه ليؤدي مهمته المقدّسة في "حريب" بمأرب.
في جسده بضع رصاصات وعدد من الشظايا، وعلى محياه ابتسامة. تمر حياته الآن أمام ناظريه. تهفهفه نسائم طفولته من هناك، من ذاك المرج الأخضر من ريف إب، من مديرية السدّة، من قريته "المسقاه".

يشعر بكف أخته "فاطمة" تمسك بيده ليرتعا معاً في حدائق من بهجة الطفولة بقريته الجنّة. يحملق في وجه أمّه الذي لم يكف يرضعه حناناً مضاعفاً استعاض به عن احتواء أبيه الذي فقده وهو لمّا يدلف الخامسة.

ها هم المسوخ يمضون أمام ناظريه، ترتسم على ملامحهم المشوهة لذاذة نصرٍ يتوهّمونه، وها هي الدماء تشخب من جروحه لتضمخ تراب وطنه، معشوقه الأوحد، قدس أقداسه، قضيته الكبرى والوحيدة. يستمر شريط حياته يمر أمام عينيه، وعلى شفتيه الابتسامة لا تزال.
في "نيعان" يتلقى أول تعليمه في "الكُتّاب"، ذلك النوع من التعليم الغابر، حيث الكتاب لوحاً من خشب، والقلم ريشة أو فحمة والأستاذ لا يدرك ما يلي حدود قريته.

ينظر إلى نفسه والأطفال من أقرانه وكذا الكبار من أقربائه يحتفلون به في السابعة من عمره بمناسبة ختمه القرآن قراءةً.

يمر على كل تلك التفاصيل التي يعيشها طفل مُثقَل بالحرمان من دفء الأسرة المتماسكة في بلدٍ يئن تحت أطنان من الجهل والخرافة تسحقه حتى العظم.
ها هو الآن في صنعاء وعمره تسع سنوات، يتقدم لمدرسة الأيتام، ترى اللجنة المختصة للقبول أنّه مهيأ لاجتياز ثلاث سنوات دراسية. ليس طفلاً عاديّاً أبداً.

الشمس تحث خطاها نحو الأفق، وما يزال دمه ينثال ثجاجاً على تربة معشوقته اليمن. يمد كفه المضرجة بالدم، يعجن ببعض دمه قبضة من التراب. يخلطها بدمه جيّداً ويتنشقها ملء صدره، ملء قلبه المفعم بالوطنية والإباء.

يلتقي بالمناضل "جمال جميل" وعمره إحدى عشرة سنة، قبل أيّام فقط من ثورة 48، بعد مضي سنتين من دراسته بمدرسة الأيتام. يقرّبه المناضل الكبير ويسأله: فيمَ تكون السعادة يا بني؟! يجيبه الطفل علي، ببداهة الواعين الكبار وبصدق الأنقياء الصغار: في الحرية.

يبتسم المناضل، يضم الطفل إلى صدره ويقول وهو ينظر في عينيه: "لو فشلت ثورتنا، لا سمح الله، فهذا الشبل هو من سيسحقهم"، ويوصيه بالاستمرار بالتعلم ويعطيه جائزة مالية ستعينه على مراحله القادمة.

حين فشلت ثورة الـ 48، والطاغية يدحرج بسيفه رؤوس المناضلين، يقول جمال جميل، مبتسماً، والسيف مسلط على عنقه: "حبّلناها، وستلد!".
لم يفهم أحد مغزى هذه الجملة، فقط علي فهمها، وظلّت أصداؤها تتردد بين جنبيه، تشعل فيه الثورة والتمرّد.

الأوّل دائماً، في كل شيء وبكل مكان، ككل الأبطال الذين كانوا لأوطانهم أقدار ابتعاث وعز. الأول في مدرسة الأيتام ثم الأول بالمدرسة المتوسطة ثم الأول في المدرسة الثانوية، وتكون جائزته قلماً من الذهب من البدر المظلم إبن بيت حميد الدين الظلّام.

توشك الشمس أن تتوارى، مِزقٌ محمرّةٌ من السحب تتوزع على الأفق الدامي كأنّما انعكاس جسد البطل المضرّج على صفحة السماء، ويستمر شريط حياته بالمضي.

يلتحق بالكلية الحربية عام 1958م، وكعادته يكون الأوّل. ها هو يزمجر من على المنصة يلقي كلمة الخريجين تُبّعاً يمانيّاً حتى النخاع، يكمل كلمته فيهب إليه آخر نسل الإمامة "أحمد" ويهديه قلمه الذهبي. يبتسم البطل واضعاً القلم في جيبه مردداً في نفسه: "سأكتب خاتمتك بقلمك هذا أيها الغشوم"!

يلتحق بمدرسة الأسلحة بمعية نخبة من أكفأ الضباط الذين صاروا رفاق نضاله تالياً. وبعد تخرجه يعود للقرية، لحقل صباه، لحضن أمّه. هكذا يفعل الأبطال، بعد أن يحسنوا إعداد ذواتهم بما تستلزمه قضيتهم من أدوات نضال يهرعون لمخازن العاطفة يتزودون منها بما يعينهم على المسير.

يسأل أمه: "أيش رأيش ببيت حميد الدين؟". تجيبه: "والله يا ولدي أعمالهم لا ترضي الله ولا رسوله"، وبحرقة من ذاق مرارة الظلم تزيد: "أمرهم إلى الله". يقبّل جبينها ثم ينظر في عينيها وابتسامته العذبة تعنون وجهه: "والله ما تسمعي عني إلا ما يسر خاطرش. أما بيت حميد الدين والله ما يذلوني، وسأموت موتة الأبطال".

بعد أن تشرّبت روحه هذا الفيض المعنوي اتجه البطل إلى "تعز" ثم إلى "الحديدة" متواصلاً مع مجموعة من الضباط الأحرار. ثم يعود إلى صنعاء ليتم تشكيل "تنظيم الضباط الأحرار" بعد محاولات عديدة لإنشائه، ويكون البطل أبرز قياداته ومسؤولاً عن خلية تتكون من عشرة من أكفأ الضباط.

يعود لينظِّم مظاهرة للطلاب في كل من صنعاء وتعز والحديدة. يؤمن بأن الفعل الثوري لا يكون كاملاً إن اكتفى بنخبويته، وأنه يكسب فاعلية أكبر كلما سبقته إرهاصات تضم إليه كل فئات الشعب، هذا ما دفعه في 55م بعد العدوان الثلاثي على مصر لتنظيم مظاهرة طلابية تزعمها هو، وكانت أول مظاهرة من نوعها نادى فيها الطلاب بالجمهورية فدخل على إثرها السجن ليعتصم الطلاب فلا يعودون إلا به.

غشاوة بدأت تخامر بصره هذه اللحظات. يشعر بخدر ينتاب أطرافه. باتت حياته تعرض مشاهدها أمام عينيه بتقطُّع:
في الخامس والعشرين من سبتمبر يجتمع مع رفاقه الضباط، يُخرِج من جيبه الورقة التي سطّر فيها أهداف الثورة بالقلم نفسه الذي كان جائزة تخرجه، تلك السطور التي فتحت لليمنيين عصراً جديداً ملؤه الضوء. ِيكمل كتابتها ويرفع رأسه للسماء مردداً: "اللهم لا تمتني قبل أن أسمع إعلان الجمهورية".

وفي الحادية عشرة مساءً يقود قوات الجيش التي أعدّها تنظيم الضباط الأحرار إلى "دار البشائر" التي كان يقطنها "البدر بن أحمد"، يحوطونها بالمدرعات ويطلبون منه وحاشيته الاستسلام فيكون الرد وابلاً من الرصاص يضطر البطل ورفاقه إلى قصف الدار بالمدرعات.

وفي صباح السادس والعشرين من سبتمبر تتحقق أمنية البطل إذ ارتقى "محمد الفسيل" منصة إذاعة صنعاء مرتلاً بيان الثورة معلناً الجمهورية وموارياً الإمامة.

يشعر البطل بانسلال روحه رويداً رويداً. ترتخي أصابعه عن قبضة التراب المنعجنة بدمه وهو يمر على آخر أيامه التالية لإعلان الثورة. أسبوعان من التصميم الثوري، من الحنكة في توزيع المهام. وها هو اليوم يخرج بنفسه، كعادة القادة الأبطال المغاوير في كل زمن، على طليعة قوة لمواجهة ذيول الإمامة المتجمعة في "بيحان" بنيّة الهجوم على الجمهورية مروراً بمأرب فصنعاء. وكعادة الجبناء ينصبون له كميناً ثم يمطرونه برصاص الحقد.

تغرب الشمس تماماً، ومع تبخر آخر قطرات الحياة من جسده الممتلئ باليمن، مع انسلال آخر أنفاسه المشبعة باليمن لأعالي السماء، يلوح في وعيه أبوه المعنوي "جمال جميل". يبتسم ويردد ملء الزمن: "قد وُلِدَت يا أبي.. وُلِدَت ولن تموت أبداً!".