كتابات وآراء


الجمعة - 17 يوليه 2020 - الساعة 12:32 ص

كُتب بواسطة : ياسين الرضوان - ارشيف الكاتب


نعرف قيمة الأشياء/ الأشخاص/ المؤسسات في وقت الشدّة، التي قد نمرُّ بها، وفي المواقف والمنعطفات الخطرة، فتتشكّل لدينا خارطة جديدة وحقيقيّة، من يُحبُّنا ويعمل حقًا لأجلنا في مثل هكذا أوقاتٍ عصيبة، نمرُّ فيها في وسط عواصف الحرب والأوضاع والأوبئة، في زمن كهذا لا نبحث عن ديكورات بشرية ولا ديكورات مؤسّسات شكلية، ومن هذا المنطلق يصبح تقييمنا للشيء صحيحًا وحقيقيًّا وفعّالاً ويمكن البناء عليه بناءً مستقبليًّا، وما دونه فسوف يهوي بنا في أقرب منعطف، وحينئذٍ يجب أن تتغيّر قناعاتنا نحو كلّ شيء حولنا، بعيدًا عن هشاشة الأحكام السطحية، وبهذا الخصوص، أرى أنّ علي شهادة لا أحتمل كِتمانها، وسأقولها بكل واقعية وعلى ما عايشته بنفسي..

ما حدث معنا في مدينة عدن في زمن كورونا كان واقعا مأساويا، إذ أغلقت المستشفيات أبوابها، وتُرك الناس تحت رحمة الموت الذي لا يرحم أحدا، الموت لم يكن يحمل لونًا أو شكلاً، كان يتسلّل إلينا خُفيةً مثيرًا في أوساطنا الخوف والرعب والهلع، ومن وسط هذا الركام والدمار والأوبئة والصراعات البينية التي تخوضها الحكومة مع المجلس الانتقالي، وأصبح الموت يصطاد أهالينا في كل شارعٍ وزقاق في المدينة، ووسط كلّ هذا يُبادر "المستشفى الكوبي" وحيدًا في المدينة، ليُحاول دفع أمواج وكوابيس الموت عن الأهالي، فالحكومة والانتقالي مشغولان عن الموت الذي يكاد يقتلنا خوفه ورعبه، والمسؤولون عنّا ووكلاء أمورنا تخلّوا عن المدينة، في نتيجة بائسة وخائبة لم ترضِ أحدًا، والعشوائية سيّدة الموقف..

في هكذا أمور لا يجب أن نُحابي أحدًا إنه الموت يا سادة، خاطف الأرواح ومفرّق الجماعات، ولسنا بحاجةٍ لأصدقاء للزينة أو التسلية والأرواح تتخاطف من حولنا، حتى لو كان مستقبلنا مرهونٌ بأيديهم، صراحةً لم أكن مستوعبًا سذاجة الحكومة وحتى سذاجة الانتقالي في تقييمه للأمور في المدينة وكيف بالإمكان عمل مبادرةٍ كالتي عملها الكوبي، ومقدار غبائهما، لم يبادر الطرفان لإنشاء مستشفى واحدًا كما يليق، بانتحاري الملائكة البيض، ليوقفوا عجلة الموت، من طحن عظام الغلابى والمطحونين من المواطنين، ويوقفوا مسيرهم إلى حُفَرِه، إذا لم تحموا رعاياكم من سيحميهم غيركم أيها الأوباش، أخطاءٌ لا تُغتفر وتدلُّ على كم الغباء الذي نتمتّع به، لا أخفي مقدار الإحباط الذي وصلنا إليه حينها، هل يعقل هذا، المستشفيات لا تستقبل أحدًا، ويموت الناس بالمجّان، والعقول عقيمة عن عمل فُرجَة أمل أو مبادرة تخفّف من آلام الناس..

أقولها لله وفي الله، أنّني كمواطن ومثلي كثير، لا يمكن أن ننسى مبادرة المستشفى الكوبي، بافتتاحه مركزًا خيريا لعلاج أمراض الحميات، ليكون بذلك أوّل من يصطدم بجدار الموت، ورغم تواضع المركز وإمكاناته وازدحام الناس التي تعجُّ به، وحصول كثير من التقصير فيه، إلّا أنّ ما قام به وفق الإمكانات المتاحة حينذاك شيء يستحقُّ التقدير والاحترام، أيضًا كم خُدِعنا بمستشفياتنا الكبيرة والشهيرة، كم أنها كانت أشبه ببروج عنكبوتية فارغة من العقول، لا عذر لها أبدًا، كان لدى إدارتها سوء تقييم كبير حينها، وعدم فهم للمشكلة التي أُرجعت لعدم توفّر وسائل الحماية، أين هي الخطط البديلة حاولوا صنعها وأوجدوها، كيف يمكن إذن أن نهبكم حياتنا لتخوضوا معركة الحياة، هل نعطيكم الثقة في السلم وبعد انجلاء الغُمّة، هل نسلمكم ثقتنا وأرواح أهالينا مجددا ونعذركم، لا والله لا نثق بكم في السلام، وأنتم من تخلّيتم عنّا وخذلتمونا في زمن الحرب، أثبتم أنّكم عُبّاد مال وفاشلون إداريًا وإن مستشفياتكم كسرابٍ بقِيعة يحسبه الضمآن ماءً، لا حاجة لنا بكم، إذا كنتم خالون من روح الإنسانية، المال أولا وثانيا وأخيرا، أين الله فيكم وأين ضمائركم، لماذا مستشفى أصغر منكم فعل ما لم تفعلوه أنتم، راجعوا حساباتكم، لقد وقعتم في خطأ يهدد مسيرة مستقبل كل مستشفى منكم أمام الناس..

لا أتحدّث إليكم من برجٍ عاجيٍّ، بل كنت وسط الميدان، هل تعرفون الرعب الذي وصل إلينا حينها، كنت في مهمة إعلامية لعمل تقرير تلفزيوني من هناك، لدرجة أنّ مصوري الخاص، هرب حتى من الوقوف أمام المستشفى الكوبي، كان هذا المستشفى اسمه مستشفى الوباء ولا أحد يتجرأ على دخوله من شدّة الرعب، بعد محاولات حثيثة مع مصوري الخاص وأن لدينا ما نرتديه للوقاية اللازمة لندخل إليه، أصاب الرعب مصوري وقرّر أن يترك المهمّة من شدّة خوفه، أجّلت المهمة يوما، لأستدعي مصورًا آخر، يجرأ على الدخول معي، وفعلا دخلنا للمستشفى ووجدنا وضعًا بائسًا وتقصييرًا كبيرًا، في التعامل مع كمِّ المواطنين المُقبلين على المشفى، نساءً على كراسي متحركة وأطفالًا وضعهم يبكي القلب، وكبار في السن في وضع اختناق، لكن هذه هي الإمكانيات ونحن نقدّر هذا الوضع، وما معنى أن يبني المرء مستشفى في منحدر خطر وهو يعلم أنه سيهوي هو وإياه في أيّ لحظة، إنه وباء ونحن في مكان مكتض بالناس، ووعي المرضى منخفض جدا وسط مشاعر مختلطة بصراع البقاء، وبالتأكيد حدثت مشادات بين المرضى والمستشفى، إنها حياة الأحباب في ظِلّ إمكانات تكاد تكون شبه منعدمة، كلها ترقيعات حسب ما يصل من رجال الإحسان، وإلا فلن تصمد المستشفى كثيرا بإمكاناتها الذاتية..

في ذلك اليوم قابلت مدير المستشفى الدكتور "شوقي عبدالواحد"، وجدته شخصًا عمليًّا وكان يتحرّك هو بنفسه، والكادر من حوله يقومون بأعمال جبّارة، لا ينكرها إلا جاحد، ويكفيهم أنهم قبلوا العمل في ظروف استثنائية كتلك، في حين كان المركز يطلب موظفين آخرين بأجور سخيّة دون أن يجد، لتلبية تزايد أعداد المرضى، وحدّثني "نصر الناصري" مسؤول العلاقات في المشفى عن صعوبة شراء المواد وتضاعفها بشكل كبير وكلها بأسعار السوق السوداء، بسبب الجائحة التي ضربت العالم، وأحنى العالم لها رأسه وظهره، أتذكر أيضا وأنا أتحدّث للدكتور شوقي، أنّني صادفت أحد رجال الخير في مكتبه، أتى يسأل عن كيفية تقديم المساعدة للمستشفى بالشكل الأمثل، كان الحديث يدور حينها بشكل علني وتلقائي، فيرد الدكتور، نريد أي شيء يفي بالغرض، اشتروا لنا بأنفسكم لا نريد مالًا، كل ما نريده هو توفير هذه الأشياء التي نفدت منّا...، أوقات صعبة مرت على إدارة المستشفى والعاملين والمرضى، وكان لرجال الخير دورٌ كبير، حقًّا نقولها لكل أولئك الأوفياء كنتم السند والعون وحُقّ لنا أن نُفاخر بكم، وأن نضع وسام الدفاع عن المدينة في صدوركم، كان قرار مجابهة كورونا وفتح المركز الخيري قرارًا ذكيًّا وشجاعًا وفدائيًا، وكنتم أيضًا أذكى من سياسيينا - رغم أنه دافعكم إنساني محض - حتى في تقييمكم الأمور، واتخاذ القرارات في الأوقات الصّعبة والفارقة، ولا عزاء لفاشلين الحكومة والانتقالي على حدٍّ سواء..

ياسين الرضوان
مراسل سكاي نيوز
15.7.2020