كتابات وآراء


الأحد - 31 مايو 2020 - الساعة 05:33 م

كُتب بواسطة : عبدالسلام طالب - ارشيف الكاتب


كانت عادتي أن أتمشى في مدينة صعدة لتزجية الوقت، أذكر مرة أنني كنت أطالع بتأمل وجه المدينة الناعس من علو يسمح لي برؤية واسعة، تغيرت ألوانها قبل مغيب الشمس فاذا بكل شيء في هذه المدينة ذو معنى مقصود ورسالة موجهة، لقد خطت لتكون مقالاً لا مدينة على حد وصف احدهم، في المدينة القديمة اراد بانوها حشوها بالرموز الدالة على عقيدتهم السياسية وتوجههم العقدي وما يرونه دورا مفصليا ينبغي تدوينه بشكل ما يدل على ذلك تركيبة البنايات والقباب والمقابر والألوان والرموز الدينية والكتابات المقتبسة من إنجيل الهادوية كالولاية وتعظيم شخوصها وأئمتها فيما يبدو إحلالاً لمفهوم دخيل على تركيبة المدينة الاجتماعية والثقافية، كنت أحس بملامح هويتها الأصيلة التي طمست تئن من تحت الركام بينما تجثم فوقها كل هذه السياقات.

فصعدة ككل تبدو مجزأة الى ثلاثة اقسام واضحة، المدينة القديمة والأخرى الحديثة والمقبرتين الكبيرتين، يلفها مساحات واسعة من المزارع مشكلة حوض صعدة الكبير الواسع ويحدها السلاسل الجبلية والمرتفعات، فمركز المدينة القديمة الروحي هو مسجد الإمام الهادي الرسي والذي يقع في اطار مغلق بأسوار طينية بقرب المدخل الرئيسي للمدينة، وهي في الاصل مدينة مستحدثة عن سابقتها الاصلية ويرجع تأسيسها إلى (القرن الثالث الهجري ـ القرن التاسع الميلادي) حيث اختطها الإمام "الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم "، إذ تقع على بعد 3 كم من موقع صعدة القديمة التي كانت قائمة عند سفح جبل "تلمص" والتي لم يبق منها الا الاطلال، وفي قلب المدينة القديمة المسورة تقع قلعة "القشلة" التي بناها الوالي العثماني حسين باشا حينما اسقط المدينة القديمة واخضعها تحت حكمه بعد مقتل احمد بن الحسين وهزيمة جيشه، والقلعة تشكل عنصرا تاريخيا يشير الى طبيعة الصراع الخارجي الذي قاوم الوجود الهادوي من اجل السلطة وتزاحم القلعة في تكوينها العمراني الفريد شكل المدينة ذات النمط الموحد التي تؤكد على تبعية الإمام وسلطته وسكانها من المنتمين عقديا الى الهادوية سواءً المتأثرين ممن جاءوا في موكب الهادي غازيا في اولى بدايات حكمه وكان ذلك حرصا منه على إنشاء ديمغرافية سكانية جديدة ولاؤها لحكمه ونظريته السياسية، وعلى خط طول واحد يقسم المدينة القديمة الى نصفين يقع في الجزء الشمالي من قلعة القشلة مسجد شيبان انتهاءً بباب نجران في الطرف الاخر.

عن يمين مدخل رحبان الذي يقود الى المدينة القديمة المسورة يقع في الاتجاه الجنوبي الشرقي المجمع الحكومي، الجسم الاصيل لدولة اليمنيين مبينا بالرخام الذي تغير لونه الى ما يشبه الارض الخصبة من حوله والتي تضم مزارع ومناطق مفتوحة وبعض البنايات التابعة للمجمع يعلوه علم السادس والعشرين من سبتمبر في ارتفاع ملحوظ وكانه يقابل بقيم الوانه الثلاثة جهوية المدينة القديمة المسورة والمشحونة بالعنف على ما سواها في الخارج، ولذلك ترى الشارع الاكبر يخرج منه متفرعا الى عمق المدينة الحديثة الاخرى ومنه تخرج القوانين اليها وتضم الاسواق و المساجد والمعاهد والمدارس والبنايات ومؤسسات دولة الشعب الجمهورية التي ترزح معظمها على الشوارع المتفرعة للمدينة الحديثة النابضة بالحركة، ويفصل المدينتين الحديثة والاخرى المسورة مقبرتين كبيرتين تقابل مساحتها مساحة المدينة القديمة المسورة!

كأنها نص ذو دلاله، فباتساع الدولة الهادوية في المدينة المسورة كان الموت في المقبرتين الكبيرتين والمجمع الجمهوري واتصاله بالمدينة الحديثة عبر شريان الطريق العام يمثل الحياة والحكم الذاتي لعموم الشعب. فمسجد الهادي وقلعة القشلة داخل المدينة المسورة يشكلان طبيعة الغازي بينما المجمع والمدينة الحديثة هو انتصار اليمني لحق وجوده، وكأنه تتابع زمني أو رواية تاريخية، كل شيء محسوب وذو داع ومعنى ونظام! مدينة مجزأة من الطين والحجارة وقلبها الجمهوري من رخام!

وبقليل من التنقيب نجد ان المصادر الحديثة تربط تاريخ نشوء صعدة بالدولة الهادوية ومؤسسها كما يسمونه الهادي بأمر الله بن الحسين الرسي، بمعنى ان تغريبتها تكمن في تصنيفها كعاصمة للدولة الهادوية المتعاقب حكمها على اليمن وربطها بمنظومة الحكم الاسلامي مثلما كان عليه حال كثيرا من المدن التي تأسس فيها الحكم الاسلامي، بل ان اليمنيين انفسهم باتوا اليوم يرونها كذلك فحسب، ولطالما يمكن ملاحظة قطعها من اي سياق تاريخي له علاقة بالتاريخ اليمني القديم وكأن هناك يد امتدت تعمدا للقيام بهذا الدور وتصديرها كعاصمة للهادوية والتي يطب للكثير بقصد او بدون قصد تسميتها بالدولة الزيدية عازين اياها لمذهب زيد بن علي وهي في الاساس لا تتفق مع معطيات الواقع اليمني الذي اثبت تاريخيا وحتى اليوم انها نظرية سياسية للحكم وليست مذهباً، في النهاية .. حيث البقاء للأقوى حقيقة لا نملك ان نحيد عنها الا ان عليهم ان ينسوا اننا يمكن ان ننسى ان هذه الارض كلها لنا وسنعود.